فصل: تفسير الآية رقم (37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (37):

قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِئُوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)}.
{النَّسِيءُ} مصدر بمعنى التأخير، كالنذير والنكير، بمعنى الإنذار والإنكار، من نسأت الإبل عن الحوض إذا أخرتها، أنسؤها نسأ ونساء ونسيئا. والمراد النسيء في الشهور بمعنى تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليس له تلك الحرمة، بسبب أنه كان يشق عليهم أداء عبادتهم وتجاراتهم على اعتبار السنة القمرية، حيث كان حجهم يقع مرة في الشتاء ومرة في الصيف، فيتألمون من مشقة الصيف، ولا ينتفعون بتجاراتهم ومرابحاتهم التي كانوا يودون استصحابها في موسم الحج، وربما لا يتيسر لهم ذلك.
وكذلك كانوا أصحاب حروب وغارات، وكانوا يكرهون أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، فتركوا اعتبار السنة القمرية، واعتمدوا على السنة الشمسية، ولزيادتها عن السنة القمرية احتاجوا إلى الكبس، فكانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهرا، وكانوا ينقلون الحج من بعض الشهور إلى بعض، ويؤخّرون الحرمة الحاصلة من شهر إلى شهر، ويستبيحون الحروب والغارات في الشهر الذي نقلوا حرمته، واستمروا في ذلك حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، وحرموا أربعة أشهر من شهور العام اكتفاء بمجرد العدد، فكان هذا التحليل والتحريم زيادة في كفرهم، الحاصل باعتقاد الشريك لله تعالى وعبادة الأصنام.
وقوله: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالبناء للمفعول، أي يوقع الذين كفروا بسبب النسيء في الضلال، أي يوقعهم الله في ضلال زيادة على ضلالهم القديم. وقرئ بالبناء للفاعل، أي يضلهم الله، يحلّون الشهر المؤخر عاما ويحرّمونه عاما آخر.
ثم قيل إنّ أول من عمل النسيء نعيم بن ثعلبة الكناني وكان مطاعا في قومه الذين كانوا يسألونه أن يؤخّر حرمة الشهر إلى شهر آخر ليغيروا فيه على أعدائهم، فيقول قد فعلت، ثم يعملون ما يشاءون.
وقوله: {لِيُواطِئُوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ} أي يوافقها في العدد، واللام متعلقة بالفعل الثاني، أو بما دل عليه مجموع الفعلين فيحلوا بهذه المواطأة ما حرمه الله من القتال، {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ} أي حسّن الشيطان لهم أعمالهم السيئة، فظنوا ما كان سيئا حسنا {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} أي لا يرشد الضالين الذين يختارون السيئات ويستقبحون الأعمال الصالحة.

.تفسير الآية رقم (60):

قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}.
أفادت {إِنَّمَا} حصر الصدقات في هذه الأصناف الثمانية، وأنها تصرف إليهم، ولا تصرف إلى غيرهم.
وقد كان لفظ الصدقة في عرف الشرع في صدر الإسلام يشمل الزكاة الواجبة والصدقة المندوبة. قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها} [التوبة: 103].
وقال عليه الصلاة والسلام: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة».
وفي كتاب أبي بكر لأنس بن مالك حين وجهه إلى البحرين: هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المسلمين، والتي أمر الله تعالى بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
واتفق العلماء على أن قوله تعالى: {الصَّدَقاتُ} يشمل الزكاة الواجبة. واختلفوا في الصدقة المندوبة، فمنهم من قال بدخولها في لفظ الآية الكريمة، ومنهم من قال: لا تدخل، فمن قال بدخولها يرى أن اللفظ عامّ يتناول كل صدقة، سواء الواجبة والمندوبة، بل إنّ المتبادر من لفظ الصدقة هو المندوبة، فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة فلا أقل من أن تدخل فيه أيضا الصدقة المندوبة، وتكون الفائدة بيان أنّ مصارف جميع الصدقات ليس إلا هؤلاء الأصناف الثمانية.
ومن يرى أن المراد بالصدقات هنا هو الزكاة الواجبة يستدل على ذلك بأمور:
الأول: أن (ال) في الصدقات للعهد الذكري، والمعهود هو الصدقات الواجبة التي أشار الله إليها بقوله قبل هذه الآية: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ} [التوبة: 58] والصدقات التي كان قوم من المنافقين يعيبون النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها وفي تقسيمها هي الزكاة الواجبة، فقد روي أنّ بعض المنافقين كان يعيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في توزيع الصدقة، ويزعمون أنه يؤثر بها من شاء من أقاربه وأهل مودته، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل فيها، كلّ ذلك كان في الصدقات الواجبة، فلما ورد قوله تعالى عقب ذلك: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ} دلّ على أنّ المراد الصدقات التي سبق الكلام فيها: وهي الصدقات الواجبة.
الثاني: أنّ الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير الأصناف الثمانية باتفاق، مثل بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وتكفين الموتى وتجهيزهم ونحو ذلك، فلو كانت الصدقة المندوبة داخلة في الآية لما جاز صرفها في مثل هذه الوجوه.
الثالث: أن الله تعالى جعل للعاملين عليها سهما فيها، ولم يعهد في الشرع نصب عامل لجباية الصدقات المندوبة، فلو كانت الصدقة المندوبة داخلة في الآية لوجب على الإمام أن ينصب العمال لجبايتها حتى يأخذوا سهمهم منها، ولم يقل بذلك أحد.
الرابع: أثبت الله هذه الصدقات بلام التمليك للأصنام الثمانية، والصدقات المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة.
وفي الآية جمعان: بالواو وجمع بالصيغة، فالشافعي يبقيها على ظاهرها في الجمعين معا، فيجب عند صرف جميع الصدقات الواجبة سواء الفطرة وزكاة الأموال، إلى ثمانية الأصناف، لأن الآية أضافت جميع الصدقات إليهم بلام التمليك، وشرّكت بينهم بواو التشريك، فدلك على أن الصدقات كلها مملوكة لهم، مشتركة بينهم، فإن كان مفرّق الزكاة هو المالك أو وكيله سقط نصيب العامل، ووجب صرفها إلى الأصناف السبعة بالسوية، لا يرجح صنف على صنف إن وجدوا، وإلا فللموجود منهم، ولا يجوز أن يصرف لأقل من ثلاثة من كل صنف، لأن أقل الجمع ثلاثة. وإن كان مفرقها الإمام أو نائبه وجب استيعاب الأصناف كلها، بهذا قال عكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري وداود الظاهري.
وقال الأئمة أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله: للمالك صرفها إلى صنف واحد، قال أبو حنيفة ومالك: له صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف، واستحب مالك صرفها إلى أمسهم حاجة.
قال إبراهيم النخعي: إن كانت قليلة جاز صرفها إلى صنف، وإلا وجب استيعاب الأصناف.
وما نقل عن الأئمة الثلاثة هو المروي عن عمر وابن عباس وحذيفة والحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشعبي والثوري، واختار جمع من أصحاب الشافعي جواز دفع صدقة الفطر لثلاثة فقراء أو مساكين، بل ذهب الروياني من الشافعية إلى جواز دفع زكاة المال أيضا إلى ثلاثة من أهل السّهمان، قال: وهو الاختيار لتعذر العمل بمذهبنا، ولو كان الشافعي حيّا لأفتانا به.
وحمل الأئمة الثلاثة وموافقوهم الآية الكريمة على التخيير في هذه الأصناف، ومعناها: لا يجوز صرفها لغير هذه الأصناف، وهو فيه مخير. فالآية لبيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا لتعيين الدفع لهم.
ويدلّ له قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها إلى فقرائكم».
فإن عموم ذلك يقتضي جواز دفع جميع الصدقات إلى الفقراء حتى لا يعطى غيرهم، بل ظاهر اللفظ يقتضي إيجاب ذلك، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت...».
فدلّ ذلك على جواز الاقتصار على صنف واحد.
وأما دليل جواز الاقتصار على شخص واحد من أحد الأصناف فهو أن الجمع المعرّف بأل حقيقة إما في العهد وإما في الاستغراق. ومجاز في الجنس الصادق بواحد. والحقيقة هنا متعذّرة، لأنّ الاستغراق غير مستقيم، إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير، وهو ظاهر الفساد، وليس هناك معهود ليرتكب العهد. وإذا تعذرت الحقيقة وجب الرجوع إلى المجاز، فيصير المعنى في الآية.
أن جنس الصدقة لجنس الفقير. وجنس الفقير يتحقق بواحد، فيجوز الصرف إلى شخص واحد.

.بيان الأصناف الثمانية:

الصنفان الأول والثاني: الفقراء والمساكين قال الإمام الشافعي في حد الفقير: إنه من ليس له مال ولا كسب يقع موقعا من حاجته، والمسكين هو الذي يقدر على ما يقع موقعا من كفايته، إلا أنه لا يكفيه، فالفقير أسوأ حالا من المسكين.
وقال الإمامان أبو حنيفة ومالك: إنّ المسكين أسوأ حالا من الفقير، والخلاف في ذلك لا يظهر له فائدة في الزكاة، لأنه يجوز عند أبي حنيفة ومالك صرف الزكاة إلى صنف واحد بل إلى شخص واحد من صنف. لكن يظهر للخلاف فائدة في الوصية للفقراء دون المساكين، أو العكس، وفيمن أوصى بألف للفقراء ومائة للمساكين مثلا.
ومحل الخلاف إنما هو عند ذكر اللفظين معا، أو ذكر أحدهما مع نفي الآخر، أما إذا ذكر أحدهما ولم ينف الآخر، كما إذا قال: أوصيت للفقراء بكذا، فلا خلاف في أنه يجوز أن يعطي المساكين، وهذا معنى قول بعضهم: إنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وحجة الشافعي فيما ذهب إليه وجوه:
أولها: أنه تعالى بدأ بذكر الفقراء، وهو جلّ شأنه إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجتهم، وتحصيلا لمصلحتهم، وهذا يدلّ على أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشدّ حاجة، لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم.
ثانيها: أن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره، فعيل بمعنى مفعول، فهو ممنوع من التقلب والكسب، ومعلوم أن لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال.
ثالثها: ما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يتعوّذ من الفقر وقد قال: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين».
فلو كان المسكين أسوأ حالا لتناقض الحديثان لأنه حينئذ يكون قد تعوذ من الفقر ثم سأل حالا أسوأ منه، أما إذا قلنا إن الفقير أسوأ حالا فلا تناقض البتة. وقد توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يملك أشياء كثيرة، فدل ذلك على أن كونه مسكينا لا ينافي كونه مالكا لبعض الأشياء.
رابعها: قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] فقد وصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر، ولم نجد في كتاب الله ما يدل على أن الفقير يملك شيئا، فكان الفقير أسوأ حالا من المسكين.
خامسها: نقل الشافعي وابن الأنباري وخلائق من أهل اللغة أن المسكين الذي له ما يأكل، والفقير الذي لا شيء له، وحجة الحنفية وموافقيهم وجوه:
الأول: ما نقل عن الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء ويونس وغيرهم من أهل اللغة أنّ المسكين أسوأ حالا من الفقير.
والثاني: قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: 16] أي ألصق جلده بالتراب ليواري به جسده، وألصق بطنه به لفرط الجوع، فإنه يدل على غاية الضرر والشدة، ولم يوصف الفقير بذلك.
والثالث: أن المسكين هو الذي يسكن حيث يحل، لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه، وذلك يدل على نهاية الضرر والبؤس.
وإذا تأملت في أدلة الطرفين علمت أن لا مقنع في دليل منها إلا في أدلة النقل عن أهل اللغة، والنقلان متعارضان، وأيّا ما كان الأمر فقد اتفق الرأيان على أن الفقراء والمساكين صنفان. وروي عن أبي يوسف ومحمد أنهما صنف واحد، واختاره الجبائي، ويكون العطف بينهما لاختلاف المفهوم.
وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى لفلان وللفقراء والمساكين، فمن قال: إنهما صنف واحد جعل لفلان نصف الموصى به، ومن قال: إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك.
واقتضى ظاهر الآية جواز دفع الزكاة لمن شمله اسم الفقير والمسكين، سواء في ذلك آل البيت وغيرهم، وسواء الأقارب والأجانب، والمسلمون والكفار، إلا أنّ الأحاديث الصحيحة قيّدت هذا الإطلاق، ففي الصحيحين من رواية ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: أعلمهم أنّ عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فاقتضى ذلك أن الصدقة مقصورة على فقراء المسلمين، فلا يجوز دفع شيء من الزكاة إلى كافر سواء في ذلك الفطرة وزكاة المال.
وحكى النووي في مجموعه عن ابن المنذر أن أبا حنيفة رضي الله عنه يجيز دفع الزكاة إلى الكفار.
وكذلك لا يجوز دفعها إلى من تلزم المزكي نفقته من الأقارب والزوجات من سهم الفقراء والمساكين، لأن ذلك إنما جعل للحاجة، ولا حاجة بهم مع وجود النفقة لهم، ولأنه بالدفع إليهم يجلب إلى نفسه نفعا، وهو منع وجوب النفقة عليه.
ولا يجوز دفعها إلى هاشمي باتفاق الأئمة، لما رواه مسلم عن المطلب بن ربيعة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد».
وقال الشافعي: لا يجوز دفعها إلى مطلبي أيضا لما رواه البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ بني هاشم وبني المطلب شيء واحد وشبّك بين أصابعه».
ولأنه حكم واحد يتعلق بذوي القربى، فاستوى فيه الهاشمي والمطلبي كاستحقاق الخمس.
هذا وقد اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى للفقير والمسكين، فقال الشافعي: يجوز أن يدفع إلى كل منهما ما تزول به حاجته، ولا يزاد على ذلك، سواء صار بذلك مالكا للنصاب أم لا.
وكره أبو حنيفة أن يعطى إنسان من الزكاة مائتي درهم، وأي مقدار أعطيه أجزأ، وأبو يوسف يمنع ما زاد على النصاب.
وأما مالك رضي الله عنه فإنه يرد الأمر فيه إلى الاجتهاد.
وقال الثوري: لا يعطى من الزكاة أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما.
يرى الشافعي أن الله تعالى أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجتهم، وتحصيلا لمصلحتهم، فالمقصود من دفع الزكاة سد الخلة، ودفع الحاجة، فيعطى الفقير والمسكين ما يسد خلته، ويدفع حاجته.
ويرى أبو حنيفة ومالك أن الآية ليس فيها تحديد مقدار ما يعطى كل واحد منهم، وقد علمنا أنه لم يرد بها تفريق الصدقة على الفقراء على عدد الرؤوس لامتناع ذلك وتعذره، فثبت أنّ المراد دفعها، إلى بعض أيّ بعض كان. ومعلوم أنّ كل واحد من أرباب الأموال مخاطب بذلك، فاقتضى ذلك جواز دفع كل واحد منهم جميع صدقته إلى فقير واحد، قلّ المدفوع أو كثر، فثبت بظاهر الآية جواز دفع المال الكثير إلى واحد من الفقراء من غير تحديد للمقدار، وإنما كره أبو حنيفة أن يعطى إنسان مائتي درهم، لأن المائتين هي النصاب الكامل، فيكون غنيا مع تمام ملك الصدقة، ومعلوم أنّ الله تعالى إنما أمر بدفع الزكوات إلى الفقراء لينتفعوا بها ويتملكوها، فلو أعطى الفقير مائتي درهم فإنّه لا يتمكن من الانتفاع بها إلا وهو غني، فكره أبو حنيفة من أجل ذلك دفع النصاب الكامل إلى إنسان واحد.
الصنف الثالث: العاملون عليها وهم السعاة لجباية الصدقة، ويدخل فيهم الحاشر، والعريف، والحاسب، والكاتب، والقسّام وحافظ المال، ويعطى العامل عند الحنفية والمالكية ما يكفيه ويكفي أعوانه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال باقيا، وإذا استغرقت كفايتهم الزكاة، فالحنفية لا يزيدونهم على النصف.
وعند الشافعية يعطون من سهم العاملين- وهو الثمن- قدر أجرتهم، فإن زادت أجرتهم على سهمهم تمم لهم، قيل: من سائر السهمان، وقيل: من بيت المال.
وهذا الذي ذهب إليه الشافعي هو قول عبد الله بن عمر وابن زيد، وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات، وظاهر الآية معهما.
وفيما يعطاه العاملون شبه بالأجرة وشبه بالصدقة.
فبالاعتبار الأول حل إعطاء العامل الغني، وسقط سهم العامل إذا أدى الزكاة رب المال إلى الإمام أو إلى الفقراء.
وبالاعتبار الثاني: لا تحل للعامل من آل البيت، ولا لمولاهم، ولا لغير المسلم. فعن ابن عباس أنه قال: بعث نوفل بن الحارث ابنيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: انطلقا إلى عمكما، لعله يستعملكما على الصدقة، فجاءا فحدثا النبي صلّى الله عليه وسلّم بحاجتهما، فقال لهما: «لا يحل لكم أهل البيت من الصدقات شيء، لأنها غسالة الأيدي، إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم».
وروي عن علي أنه قال للعباس: سل النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يستعملك على الصدقة، فسأله فقال: «ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس».
وأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث أبا رافع- مولاه- عاملا على الصدقات وقال: «أما علمت أن مولى القوم منهم».
وأخذ بعض العلماء من قوله تعالى: {وَالْعامِلِينَ عَلَيْها} أنه يجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة. وتأكّد هذا الوجوب بعمل النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء من بعده.
ففي الصحيحين من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استعمل ابن اللتبية على الصدقات.
وروى أبو داود والترمذي عن أبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ولّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال: اتبعني تصب منها. فقلت: حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسألته فقال لي: «إن مولى القوم من أنفسهم».
والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ويدل على الوجوب أيضا أن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه، ومنهم من يبخل، فوجب أن يبعث الإمام من يأخذ الزكاة.
ولا يبعث إلا حرا عدلا فقيها يستطيع أن يجتهد فيما يعرض من مسائل الزكاة وأحكامها.
ويدل قوله تعالى: {وَالْعامِلِينَ عَلَيْها} على أنّ أخذ الصدقات إلى الإمام وأنه لا يجزئ ربّ المال أن يعطيها المستحقين، لأنه لو جاز لأرباب الأموال أداؤها إلى المستحقين لما احتيج إلى عامل لجبايتها، فيضر بالفقراء والمساكين، فدل ذلك على أن أخذها إلى الإمام، وتأكد هذا بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً} لكن ربما يعارضه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج: 24، 25] فإنه إذا كان ذلك الحق حقا للسائل والمحروم وجب أنه يجوز دفعه إليهما ابتداء.
من أجل ذلك ترى للعلماء تفصيلا في أموال الزكاة: فإن كان مال الزكاة باطنا فقد أجمعوا على أن للمالك أن يفرقها بنفسه، كما أنّ له أن يدفعها إلى الإمام، وإن كان مال الزكاة ظاهرا كالماشية والزروع والثمار فجمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار على أنّه يجب دفعها إلى الإمام، فإن فرقها المالك بنفسه لم يحتسب له بما أدى، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، وقول من قولي الشافعي عملا بظاهر قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً} ولأن الزكاة مال للإمام فيه حق المطالبة، فوجب الدفع إليه كالخراج والجزية، وقال الشافعي في الجديد: يجوز أن يفرقها بنفسه، لأنها زكاة، فجاز أن يفرقها بنفسه كزكاة الباطن.
الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم قال العلماء: المؤلفة قلوبهم ضربان: مسلمون وكفار، فأما الكفار فقد كانوا يتألفون لاستمالة قلوبهم إلى الدخول في الإسلام، ولكف أذيتهم عن المسلمين، وقد ثبت أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أعطى قوما من الكفار يتألف قلوبهم ليسلموا.
ففي صحيح مسلم أنه أعطى صفوان بن أمية من غنائم حنين، وصفوان يومئذ كافر.
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قسّم من غنائم حنين للمتألفين من قريش وفي سائر العرب وجد هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، وأنّه قال لهم: «أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قواما ليسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام».
واختلف العلماء في إعطاء الكفار من سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، فروي عن الحسن وأبي ثور وأحمد أنهم يعطون، وهو قول عند المالكية.
وذهب الحنفية والشافعية وأكثر العلماء: إلى أن إعطاءهم إنما كان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أول الإسلام في حال قلة عدد المسلمين، وكثرة عدوهم، وقد أعزّ الله الإسلام وأهله، واستغنى بهم عن تألف الكفار، ولذلك فإنّ الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يعطوهم، وقال عمر رضي الله عنه: إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
وأجابوا عن الحديث بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعطاهم من خمس الخمس وكان ملكا له خالصا يفعل فيه ما يشاء، أما الزكاة فلا حق فيها للكفار.
وأما المسلمون من المؤلفة قلوبهم فهم أصناف: صنف لهم شرف في قومهم يطلب بتألفهم إسلام نظائرهم. وصنف أسلموا ونيتهم في الإسلام ضعيفة، فيتألفون لتقوى نيتهم ويثبتوا.
ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن لكل واحد منهم مئة من الإبل، وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم أيضا لشرفهما في قومهما.
وصنف ثالث: وهم قوم يليهم جماعة من الكفار إن أعطوا قاتلوهم.
وصنف رابع: وهم قوم يليهم قوم من أهل الزكاة إن أعطوا جبوها منهم. وقد ثبت أن أبا بكر أعطى عدي بن حاتم حين قدم عليه بزكاته وزكاة قومه عام الردة.
وقد اختلف العلماء في المؤلفة قلوبهم من المسلمين، فذهب الحنفية إلى أنّ سهم المؤلفة قلوبهم قد سقط بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم سواء أكانوا من الكفار أم من المسلمين، لأن المعنى الذي لأجله كانوا يعطون قد زال بإعزاز الإسلام واستغنائه عن تأليف القلوب واستمالتها إلى الدخول فيه، وذهب إلى هذا كثير من أئمة السلف، واختاره الروياني وجمع من متأخري أصحاب الشافعي، وعلى هذا يكون عدد الأصناف سبعة لا ثمانية.
والمنقول عن نص الشافعي وأصحابه المتقدمين أن حكم المؤلفة قلوبهم من المسلمين لا يزال معمولا به، وهو قول الزهري وأحمد، وإحدى الروايتين عن مالك.
والآية في ظاهرها يشهد لهم.
واختلف القائلون بسقوط سهم المؤلفة في توجيه رأيهم، مع أن الآية في ظاهرها جعلت للمؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة، فقال صاحب الهداية من الحنفية: إن هذا الصنف من الأصناف الثمانية قد سقط، وانعقد إجماع الصحابة على ذلك في خلافة الصديق رضي الله عنه، وحينئذ يكون هذا الإجماع أو مستنده ناسخا للآية في صنف المؤلفة.
وقال آخرون في وجه سقوطه: إنه من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته، كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار.
الصنف الخامس: ما أشار إليه بقوله: {وَفِي الرِّقابِ} في قوله تعالى: {وَفِي الرِّقابِ} محذوف، والتقدير: وفي فك الرقاب.
واختلف أهل العلم في تفسير {الرِّقابِ}: فقال عليّ كرم الله وجهه وسعيد بن جبير والزهري والليث بن سعد والشافعي وأكثر العلماء: يصرف سهم الرقاب إلى المكاتبين.
وقال مالك وأحمد: يشترى بسهمهم عبيد ويعتقون، ويكون ولاؤهم لبيت المال.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ولكن يعطى منها في رقبة، ويعان بها مكاتب.
وقال بعض العلماء: يفدى من هذا السهم الأسارى.
وحجة الشافعي وموافقيه أن قوله تعالى: {وَفِي الرِّقابِ} كقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين، فكذا هنا يجب الدفع إلى الرقاب، ولا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتبا، ولو اشترى بالسهم عبيدا لم يكن الدفع إليهم، وإنما هو دفع إلى سادتهم، وانتفاعهم بالعتق ليس تمليكا، لأنّ العتق إسقاط.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قوله: {وَفِي الرِّقابِ} يريد المكاتبين. وتأكد هذا بقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ} [النور: 33].
وحجة المالكية أن الرقاب جمع رقبة، وكل موضع ذكرت فيه الرقبة فالمراد عتقها، والعتق والتحرير لا يكون إلا في القن، كما في الكفارات فلابد من عتق رقبة كاملة ملكا ويدا، وحجة الحنفية أن قوله تعالى: {وَفِي الرِّقابِ} يقتضي أن يكون للمزكي مدخل في عتق الرقبة، وذلك ينافي كونه تاما فيه.
ومن قال بفك الأسارى من سهم الرقاب يرى أن المراد تخليص المسلم من حال النقص وفداء مسلم وتخليصه من أيدي الكفار أولى من عتق مسلم تملكه يد مسلمة.
ولا نعلم خلافا في أنه لا يجوز إعطاء المكاتب الكافر، ولا عتق قن كافر.
والقائلون بإعطاء المكاتب شرطوا فيه الحاجة، فإن حل عليه نجم ولم يكن معه ما يؤديه أعطي مقدار النجم أو ما يكمله، وإن كان معه ما يفي بالنجم لم يعط شيئا.
قال الشافعي وأصحابه: يجوز صرف الزكاة إلى المكاتب بغير إذن سيده، ويجوز الصرف إلى السيد بإذن المكاتب، ولا يجوز الصرف إلى السيد بغير إذن المكاتب، والأولى صرفها للسيد بإذن المكاتب، لأن الله تعالى أضاف الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدّم ذكرهم باللام، ولما ذكر الرقاب أبدل حرف اللام بحرف في فقال: {وَفِي الرِّقابِ} فلابد لهذا العدول من فائدة وهي أنّ الأصناف الأربعة الأول يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات على أنه ملك لهم، يتصرفون فيه كما شاءوا. وأما المكاتبون فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم من الرق، فكان الدفع إلى السادات محققا للصرف في الجهة التي من أجلها استحق المكاتبون سهم الزكاة، وكذلك القول في الغارمين يصرف المال إلى قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه، وابن السبيل يعطي ما يعينه في بلوغ مقصده.
الصنف السادس: الغارمون أصل الغرم في اللغة اللزوم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً} [الفرقان: 65] والغريم يطلق على صاحب الدين، وعلى المدين لملازمة كل منهما صاحبه.
وأما الغارم فهو الذي عليه الدين، لأنه التزمه وتكفل بأدائه. ولم يختلف العلماء أن الغارمين هم المدينون، وأما قول مجاهد: الغارم من ذهب السيل بماله أو أصابه حريق فأذهب ماله فمحمول على أنه أراد من ذهب ماله وعليه دين. وأما من ذهب ماله وليس عليه دين فإنّه لا يسمى غريما، وإنما يسمى فقيرا أو مسكينا.
وظاهر الآية أن المدين يعطى مطلقا سواء أوجد وفاء لدينه أم لا، وسواء استدان لنفسه أم لغيره، وسواء أكان دينه في معصية أم لا.
ولكن الحنفية يخصصون الغريم بمن لا يملك نصابا فاضلا عن دينه، وحجتهم في ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأردها في فقرائكم».
فإنّ هذا يدل على أنّ الصدقة لا تعطى إلا للفقراء.
وقال الشافعية: إن استدان لنفسه لم يعط إلا مع الفقر، وإن استدان لإصلاح ذات البين أعطي من سهم الغارمين، ولو كان غنيا، لما روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدّق على المسكين، فأهدى المسكين إليه».
وقال قوم: إذا كان الغريم قد استدان في معصية فإنه لا يدخل في عموم الآية، لأن المقصود من صرف المال المذكور في الآية الإعانة، والمعصية لا تستوجب الإعانة، ومثل هذا لا يؤمن إذا أدّي عنه دينه أن يستدين غيره، فيصرفه في الفساد.
الصنف السابع: ما أشار الله إليه بقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
قال أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله: يصرف سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة إلى الغزاة الذين لا حقّ لهم في الديوان، وهم الغزاة إذا نشطوا غزوا.
وقال أحمد رحمه الله في أصح الروايتين عنه: يجوز صرفه إلى مريد الحج.
وروي مثله عن ابن عمر.
وحجة الأئمة الثلاثة المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو الغزو، وأكثر ما جاء في القرآن الكريم كذلك، وأن حديث أبي سعيد السابق في صنف الغارمين يدل على ذلك، فإنه ذكر ممن تحل له الصدقة الغازي، وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إلا الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى.
واستدل لما روى عن أحمد بحديث أبي داود عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وإنها سألتني الحج معك.
قالت: أحجّني مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فقلت: ما عندي ما أحجك عليه.
قالت: أحجني على جملك فلان.
فقلت: ذلك حبيسي في سبيل الله.
فقال: «أما إنّك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله».
وأجاب الجمهور بأن الحج يسمى سبيل الله ولكن الآية محمولة على الغزو لما ذكرناه.
وفسر بعض الحنفية سبيل الله بطلب العلم، وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه جميع وجوه الخير مثل تكفين الموتى، وبناء القناطر، والحصون، وعمارة المساجد، لأن قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} عام في الكل. وأيّا ما كان الأمر فقد اشترط الحنفية للصرف في سبيل الله الفقر.
وقال الشافعية يعطي الغازي مع الفقر والغنى، للخبر الذي ذكرناه في الغارم، ويعطى ما يستعين به على الغزو من نفقة الطريق وما يشتري به السلاح والفرس، فإن أخذ ولم يغز استرجع منه.
الصنف الثامن: ابن السبيل ابن السبيل الذي يعطى من الصدقة: هو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة. قال العلماء: وإنما يعطى ابن السبيل بشرط حاجته في سفره، ولا يضر غناه في غير سفره، فيعطى ما يبلغ به مقصده. فإن كان سفره في طاعة كحج وغزو وزيارة مندوبة أعطي بلا خلاف.
وإن كان سفره في معصية لم يعط بلا خلاف، لأنّ ذلك إعانة على المعصية.
وإن كان سفره في مباح كرياضة فللشافعية فيه وجهان:
أحدهما: لا يعطى، لأنه غير محتاج إلى هذا السفر.
الثاني: يعطى، لأنّ ما جعل رفقا بالمسافر في طاعة جعل رفقا بالمسافر في مباح كالقصر والفطر.
مسألة: هذه مسألة تشترك فيها الأصناف السابقة كلها: قال الرافعي نقلا عن أصحاب الشافعي: من سأل الزكاة وعلم الإمام أنه ليس مستحقا لم يجز له صرف الزكاة إليه، وإن علم استحقاقه جاز الصرف إليه بلا خلاف، ولم يخرّجوه على الخلاف في قضاء القاضي بعلمه، مع أن التهمة هاهنا مجالا أيضا للفرق بأن الزكاة مبنية على الرّفق والمساهلة، وليس فيها إضرار بمعين، بخلاف قضاء القاضي.
وإن لم يعرف حاله فالصفات قسمان: خفية وجلية.
فالخفي: الفقر والمسكنة. فلا يطالب مدعيه ببينة لعسرها، فلو عرف له مال وادعى هلاكه لم يقبل إلا ببينة.
وأما الجلي فضربان:
أحدهما: يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في المستقبل، وذلك في الغازي وابن السبيل، فيعطيان بقولهما بلا بينة ولا يمين، ثم إن لم يحققا ما ادعيا، ولم يخرجا استردّ منهما ما أخذا. وإلى متى يحتمل تأخير الخروج؟ قال السرخسي: ثلاثة أيام، قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذا على التقريب، وأن يعتبر ترصده للخروج، وكون التأخير لانتظار أو للتأهب بأهب السفر ونحوها.
الضرب الثاني: يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في الحال، وهذا الضرب يشترك فيه بقية الأصناف، فالعامل إذا ادعى العمل طولب بالبينة، وكذلك المكاتب، والغارم، وأما المؤلف قلبه فإن قال: نيتي ضعيفة في الإسلام قبل قوله، لأن كلامه يصدقه، وإن قال: أنا شريف مطاع في قومي طولب بالبينة.
قال الرافعي: واشتهار الحال بين الناس قائم مقام البينة في كل من يطالب بها من الأصناف، لحصول العلم أو الظن بالاستفاضة. اهـ. من مجموع النووي بتصرف.
وقوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} بعد قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ} إلخ جار مجرى قوله فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة، فهو زجر عن مخالفة هذا الظاهر، وتحريم لإخراج الزكاة عن هذه الأصناف {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم {حَكِيمٌ} لا يشرع إلا ما فيه الخير والصلاح للعباد.